يجلس
أحمد و أبوه و ابن عمته حول أمه السابحة في الغيبوبة متجهمين ،
بينما تبكي ندى بصمت و هي تحتضن عادل في
محاولة يائسة لتخفيض صوت بكائه حتي لا يثور أبوها عليه ، بعد أن اخبرهم
الطبيب ب استمرار تدهور حالة الأم بدون
أسباب و اضحة و أن عليهم التواجد معها بأقصى حد ممكن لاحتمالية أن تكون
تلك أيامها الاخيرة بالحياة .
و
يبدو أن ما كانت ندى تخشاه لمعرفتها
الجيدة بطباع أبيها قد حدث ، فقد انفجر
صارخاً بهم دون أن يأبه لكونه في المستشفى .
-
أمكم ما ماتتش
لسة علشان العياط دا كله
تفاجأ
سعد و عادل بتلك الثورة فنظر سعد مندهشاً لأحمد الذي لم يتأثر إطلاقاً بما حدث ، و
أمتنع عادل عن البكاء راغماً نفسه مع استمرار
هطول الدمع من عينيه و اضطراب أن فاسه
الذي كان مسموعا لسرعته و ثقله مما زاد من غضب الأب فنظر له بنظرة نارية فاخذت
ندى اخاها لخارج الغرفة .
نظر
الأب نحو الأم ثم دفن رأسه في ذراعها مما أدهش سعد و أحمد و ما لبثت ثوان و ارتفع
صوت بكاءه و نشيجه بحرقة و أحمد مستمر في تأمله باندهاش فضغط سعد علي ذراع أحمد
و أشار له نحو الباب فقاما في هدوء و تركا الغرفة . و لكنهم لم يجدوا ندى أو عادل مما أقلق سعد فطمأنه
أحمد بأنها مؤكد اخذت عادل لكافتيريا
المستشفي لتهدئ من روعه .
صمتا
قليلا ثم تكلم أحمد في شرود دون أن ينظر لسعد و كانت نظراته كمن يشاهد أشياء بعيدة .
-
أناأول مرة أشوف بابا كده
-
طبيعي يا ابني
..دا مش غريب
-
لا غريب ..
بابا في الفترة الاخيرة قبل موت و الدتك كان حاد جدا مع ماما ، تقريبا كان كل كلامهم خناق .
-
اديك قلت ..
قبل موت أمي .. مش سهل يا أحمد اخته و مراتة يروحوا و را بعض كدا من غير ما يهزوا أعصابه
.. دا إن ما كسرهوش حجم الخسارة.
-
بمناسبة هز الأعصاب
...إيه برود الأعصاب اللي نازل عليك دا و لا كان أمك ماتت .
-
انت مش قادر علي أبوك ها تطلعهم عليا أنا؟ عموما يا سيدي أناجاي مصر بس علشان ازور قبرها و عديت مرحلة الآن كسار دي من فترة .
-
غريبة
-
قوم نجيب حاجة
ناكلها و نجيب لأبوك كمان .. إحنا داخلين
علي المغرب و ما حدش داق لقمة من الصبح .
و بالمرة نطمن علي اخوك و أختك .
..............................................................
رفع روؤف "أبو أحمد" رأسه من على ذراع
زوجته و أخذ ثوان ليتمالك نفسه و مسح و جهه المبتل بذراعه ثم التفت حوله فوجد
الغرفة فارغة فتنفس الصعداء ثم قام و توجه
للثلاجة الصغيرة في زاوية الغرفة و اخذ
منها زجاجة مياة معدنية صغيرة و شربها
كلها ثم ألقاها في القمامة و عاد لكرسيه مجدداً بعدما حركة قليلاً بحيث يواجه
في جلسته زوجتة ثم أغمض عينيه و بدأ
يكلمها بغضب .
-
نبيلة .. أنا عارف أنك سامعاني .. مش عارف بس لأ دا أنا متأكد كمان . لو كان حسن هو السبب في اللي إنتي فيه أناهاقتله .. قلت لك الواد دا مش ها ييجي منه غير
المشاكل و ما صدقتينيش .
صمت قليلاً ثم بدأ يكلمها بهدوء .
-
ما احنا كنا
عايشين مرتاحين ليه فتحتي الأبواب القديمة ؟ صدقتيني دلوقتي لما قلتلك الطريق دا اخرته
سودا .. آدي آمال و لعت و أنتي
كنتي ها تروحي مني بسببها .. عرفتي دلوقتي أن الموضوع
حب و خوف عليكي و على عيالنا مش إنكار وتكبر زي ما بتقولي ؟ أرجوكي كفايه هروب
و ارجعيلي .
شرد قليلاً و دون أن ينتبه سالت دمعة و حيدة من عينيه فنظر لزوجته بحب
.
-
أنا بحبك يا نبيلة و لولاكي كنت حصلت صالح ، و حبيتك أكتر لما احترمتي رغبتي و بعدنا عن الطريق دا و اهتمينا بعيلتنا و خلاص .. آه زعلان منك لأنك كنتي بتسيبي أحمد عند آمال كتير
بس سعد هو اللي كان بيخليني ما اتكلمش في
الموضوع دا و اقول الواد لوحده و اخواته بنات و ابوه و جوده زي قلته فمافيش مشكلة انه يبقي مع أحمد ، بس بصراحة أنافرحت لما سافر و كنت عارف أن أحمد
مش هيقعد هناك زي الأول بعدها و لا
آمال هاتجرؤ تنطق بكلمة ليه علشان ي . حتي بعد ما رجع
دلوقتي مطمن و مش فارق معايا بعد موت
آمال . كدا صالح و آمال و أنس ماتوا و السر مش هيخرج عني و عنك و ها
يموت مع أنا.
ثم أستدرك و قال كمن ينفي كلامه و ينكره .
-
بس أكيد مش
قصدي أنك تموتي دلوقتي ... ما تفهمينيش
غلط . ... أناعارف أن أحمد
و ندى و عادل من حقهم يعرفوا بس تضمني منين انهم ما يحصلوش اعمامهم و يموتوا في الاخر .. أناعارف إنك مش راضية عن رأيي دا بس آديكي شفتي أنس لما و افقك حصل لكوا إيه ... قومي بقي انتي طولتي أوي و هاقولك جملتك اللي كنتي دايما
بتعصبيني بيها .. " إحنا مش زيهم يا روحي " .
....................................
يجلس أحمد و ندى و عادل في كافتريا المستشفي بعدما أصر سعد أن يستريحوا حتي يشتري لهم الطعام بدلاً من العصير
الذي أحضرته ندى لنفسها و لاخيها الصغير
قبل حضورهم ، ظل أحمد يرمق عادل و اخته في
صمت و وجد أن عادل قد توقف عن البكاء و أن ندى
تمالكت أعصابها و أصبحا الإثنان مختلفين
تماماً عما ك أناعليه منذ قليل في الغرفة ، و حين لاحظت ندى نظرته المتشككة ابتسمت ابتسامة متكلفة
و قالت في تردد :
-
أناحاسة ان ماما ها تخف قريب قوي .
فابتسم عادل بفرحة و زادت نظرة أحمد تشككاً ثم قال :
-
يا رب
صمتت ندى و اخرجت هاتفها النقال و بدأت تعبث فيه في توتر فقال أحمد بلهجة هادئة
-
هو مين اللي
روق أوضتي اخر مرة يا ندى ؟
نظرت له ندى في استغراب من السؤال الذي في غير محله
و أجابت في دهشة
-
أنا.
-
ودا كان إمتى ؟
-
من 3أيام
-
ما لاحظتيش
حاجة غريبة ؟
-
حاجة غريبة زي
إيه ؟
-
زي ..
و رن هاتف ندى بشكل مفاجئ أفزعها فانتفضت فزاد شك أحمد أن هناك شيء مريب ، نظرت ندى للشاشة ثم ردت بصوت
خافت جداً بعد أن التفت نصف لفة فوق مقعدها و أعطت ظهرها لاخيها .
-
لسة هنا ...
لا مينفعش .. طيب .. خلاص حاضر .
وضعت ندى الهاتف في حقيبتها و ارتشفت اخر رشفة من عصيرها ثم توقفت و قالت أنها ذاهبة
للحمام و وصت عادل بألّا يبتعد عن أحمد و كان ذلك
بالتزامن مع حضور سعد بالطعام فاستغرب انصرافها
ثم جلس بجانب أحمد و بدأ يفتح أكياس
الشطائر بينما أحمد يرمق اخته و هي تبتعد
فنظر لأحمد و هو يعطي عادل شطيرته سائلاً
إياه
-
هو فيه إيه يا
أحمد ؟
-
فيه حاجات
كتير ماعرفش عنها حاجة .
ثم مسك يد سعد وهو يفض شطيرة اخري و قام من مقعده .
-
لأ استني ها شوف
حاجة قبل الأكل ، خلي عادل معاك و أناراجعلك تاني .
و قبل أن يتحرك أحمد من مكانه انقطع التيار الكهربائي عن المستشفي كلها و عم
الظلام .