الثلاثاء، 17 مارس 2015

حفلة خاصة





حفلة خاصة





    رن هاتفها المحمول فنظرت لشاشته ووجدت رقماً غريباً فلم تهتم أول الأمر، ثم تكرر الرنين بإصرار أزعجها فردت بشيءٍ من الحدة والاقتضاب.
-         آلو
-         الفنانة مريهان؟
-         نعم.
-         مساء الخير حضرتك، اتمني الا اكون أزعجك.
-         لا أبداً ... خير؟ - أنا رجل الأعمال سعيد الحميدي وأرغب أن أقيم حفلة وأرغب أن يكون علي أنغام صوتك.
قالت بدهشة:
-         حفلة؟
-         نعم .. حفلة خاصة.
 شعرت بالارتياب من هذا الشخص، وحين طال صمته قالت:

     -   آسفة ولكني لم أعد أغني في حفلات خاصة.
-         أدري ذلك .. وأدري أيضاً أنه ليس قراراً شخصياً، بل لم يعد أحد يقيم حفلات سوى للأفراح أو في مناسبات محدودة أو منظمين الحفلات الكبيرة في الصيف علي شتى الشواطيء الراقية. - لا أبالي بالأسباب .. لقد توقفت وهذا يكفيني.
-         ولكن الأمر يستحق
-         أي أمر ؟
-         ستعلمين وقتها.
-         نعم ؟
-         أعذريني سيدتي .. دعيني أوضح أكثر.
-         لا داعي
-         فليطل صبرك عليَّ لدقائق أخرى أرجوكِ ولك بعدها مطلق الحرية في القبول أو الرفض أو إغلاق المكالمة.
-         تفضل.
-         إنه حفل خاص ولكن ليس شخصي، في مكان عام وحضور محدود وليس قليل.. لن تقضي أكثر من ثلاث ساعات فقط تقسمينهم كما تشائين، ويمكن بعد موافقتك أن تحضري وتغني أغنية واحدة، وإن لم يعجبك الأمر ترحلين دون إكمال الحفل وبكامل أموالك التي تحددينها بنفسك.
-         أين سيكون الحفل؟
-         في قاعة مكتبة عامة في منطقة عابدين... ورقم هاتفها سأرسله لك في حال موافقتك، ويمكنك الاتصال والتحقق بنفسك، بل ويمكنك أيضاً الاتصال بالسنترال والتأكد من العنوان والتفاصيل عن طريق الرقم.
-         وهل الأمر بهذة الأهمية؟
-         جداً.
-         ليس لهذة الدرجة ... لقد أصبح الأمر مزرياً، وإن اعتذرت عنه يمكنك الاتصال بغيري للاتفاق معه دون عناء، وسيقبل بكل ترحاب، فلا تجهد نفسك.
-         أرجوك ... الأمر كله سيلغي دونكِ.
-         لماذا؟
-         لأنك نجمة حفلنا المرجوة والوحيدة ولن يشاركك أحد.
-         هل تدرك مدى المبلغ المطلوب لأغني في حفل؟
-         لك ما تتطلبين.
-         والحفل متي؟
-         بعد غد.
-         اذن سأعطيك ردي بالغد.
-         آسف يا افندم .. يجب أن تقرري اليوم.
-         ولماذا يجب؟
-         لأتفق مع المكتبة.
-         فهمت ... إذا فليكن.
-         وهناك شرط آخر من فضلك.
-         وتشترط أيضاً؟
-         سامحيني، ولكن يجب أن تكون اختياراتك فيما ستغنينه لا تخرج من مجموعة معينة من أغانيك.
-         هذا غريب.
-         صدقيني، الأمر يستحق.
-         لا بأس ... أي الأغاني ترغبون؟
-         فقط أعطيني ساعة لأنظم مع المكتبة تفاصيل الحفل، ثم سأعاود الاتصال بك لتحديد الأغاني والمال وإعطاءك العنوان وباقي التفاصيل.

........................................................



    دخلت من باب المكتبة فوجدت شاباً يتجه نحوها بسرعة بابتسامة واسعة وحياها بحرارة وسعادة أبهجتها، ولكن توقعت أن يشير لها أو يسير معها نحو أية جهة، ولكنه ظل واقفاً في مكانه بجوارها لثوانٍ يتحدث عن مدى بهجته بقبولها الغناء في تلك الحفلة، ثم حين لمح رواد يقتربون من الخارج للباب أشار لها لباب جانبي صغير، وتوجه معها تجاهه. فسألته مستفسرة، فقال لها أن هذا الباب يقود لسلم تصعده لتصل لكواليس مسرح القاعة الفنية للمكتبة، فابتسمت بلطف وطلبت منه أن يعود لعمله، وهي يمكنها أن تصل بنفسها. دخلت من الباب فوجدت ممراً متسعاً قصيراً بلا أبواب علي جانبيه، و آخره دَرَج وشبه مظلم عدا آخره، فتوجهت بخطوات ثابتة نحوه، ولكن فاجأها صوت ذكوري غليظ في الظلام، فتوقفت وأصغت لكن وجدت صوتاً ذكورياَ آخر يرد عليه، فأمعنت النظر في الظلام، فلم ترَ شيئاً، ثم وجدتهما يخرج أحدهما من أسفل الدرج ويأخذ صناديق كرتونية بشكل رتيب ويعطيها للآخر تحت الدرج، ففهمت أنهما عاملان يقومان بترتيب بعض الصناديق، فتمهلت خطاها وبطؤت وإن وشت بشيء من القلق، وأعطتها وقتاً لتسمع شيئاً من حوارهما.
-         من معه مال محيره يشتري حمام ويطيره.!
-         إنهم مدللون ... لو يدركون أن غيرهم يتمنى ربع ما ينفقون.!
-         ولكن لم يقل بهاء هذة المرة عن اسم مستأجر القاعة.
-         عندك حق ... رغم أن بهاء يؤلمه أن يعرف أمراً ولا يشارك الجميع به في ثرثرته اللا نهائيه.
-         يقال أن هذة المرة الأمر أكبر من فِرَق شبابية مجهولة وأصحابهم.
-         سمعت هذا ولم أصدق ...
-         لن يقبل أي من المشاهير الغناء في تلك المكتبة الصغيرة ذات الميزانية المتهالكة.
-         أتدري أن بدون تأجير القاعة اليتيمة تلك من وقت لآخر، لم تكن أجورنا تغطي ديوننا الشهرية؟
-         حماقةٌ روتينيةٌ أخري ... عشرات الموظفين بأجور زهيدة في كيان مفلس لا يزوره أحد، ولو كان هناك بدائل لذهبت عنه بلا رجعة.
-         كفي نواحاً ودعنا ننهي هذا لنري أمر مفاجأة الحفل تلك.
-         وفيما ستفيدنا؟
-         لا شئ، مجرد...
    قطع الرجل بجوار الدرج كلامه، حين رآها تقترب فحدق بها مندهشاً، فصاح الآخر من تحت الدرج يسأله عن سبب صمته ووقوفه، فلم يهتم فابتسمت هي في خفوت رسم ابتسامة واسعة علي محياه، وصعدت هي الدرج بينما خرج زميله ليسأله عما به، فلم يجد إلا ابتسامة واسعة بلا سبب.


..................................................



    أعطت المايسترو ألحان الأغاني المنتقاة فابتسم بتهذيب وسعادة وهو يأخذها منها ويعطيها نسخته لتتأملها وتجدها مطابقه تماماً، فتبتسم له وقد اطمأنت، ووقفت خلف الميكروفون منتظرة انفتاح الستار فبدأت الموسيقى لأغنية طويلة قديمة لها فاستغربت سبب البداية المبكرة على رفع الستار، ونظرت للعازفين بدهشة فوجدتهم شباب وفتيات متوسطي السن فابتسموا لها جميعاً فمع وجوههم النضرة المشرقة بابتساماتهم شعت في داخلها بهجةً كبيرةً غير مبررة، منعتها من أخذ أي موقف، بل وهيأت ذاتها لتحتوي أية أخطاء قد تصدرعنهم دعماً لموهبتهم، وأعجبها عزفهم الدقيق المتقن كعازفي الأوبرا أو غيرهم من الكبار المخضرمين، والذي ظهر بوضوح لأن الأغنية كانت من أغاني بدايتها التي اتسمت بالإبداع في التلحين،عن السرعة أو الجو الموسيقي الإليكتروني الصاخب الأخير الذي أصاب معظم الأغاني حتى أغانيها هي. واقترب الجزء الذي ستغني به فجهزت نفسها للغناء ولو أن الستار كان  مغلقاً، ولكن فاجأها تحرك الستار ببطء وهدوء متناغم مع نغمة معينة فهالها ما رأت ... كانت القاعة ذات العدد المتوسط من المقاعد ممتلئ نصفها بمستمعين غالبيتهم من الشباب، وقد ارتدى جميعهم الملابس الرسمية وارتدت معظم النساء أثوابا وتنانير جميلة، وقد علت الدهشة وجوه الجميع ثم قام أحدهم بالتصفيق فتعالى التصفيق بشكل حاد مع عيون دامعة لدي بعضهم فاستغربت هذا الأمر وإن ابهجها بشدة فغنت من قلبها يومها بشكل فاجأها، شعور غامر بالفرحة والامتنان غمرها وإن لم تفهم سببه، هذة القاعة الأنيقة والأغاني الراقية المنتقاة بعناية والجمهور الكلاسيكي الذي ظنت بانقراضه منذ زمن، بل إنه شابٌّ كذلك وهذا أكثر ما ادهشها، كما لم يقع العازفون في أية أخطاء، بل كانوا في غاية الانتباه للمايسترو الذي كان متواصلا معها بصرياً وتجاوب مع جميع رغباتها في إعادة مقاطع بعينها في بعض أغانيها بشكل متكرر غير موجود في اللحن الأساسي ولكن متجاوب معه جمهورها وأحبالها الصوتية وروحها الفنية، في امتزاج افتقده الفن وكان آخر ظهور له -باستثناء بعض المرات النادرة - في أغاني جيل نادية مصطفي وميادة الحناوي وغيرهما من ذوي الأصالة في الغناء.

    انتهى الحفل ولم يقم المستمعون بسرعة كجمهور السينما، بل انتظروا حتى توارت هي بانغلاق الستار رغم استمرار التصفيق والذي كان ببهجة وبعد كل أغنية، ذهبت للمايسترو والعازفين وأثنت علي عزفهم وحسن قيادته فبادلوها الابتسام في تهذيب، وقال المايسترو أنه هو وفرقته من شرفوا بعزف تلك الأغاني بوجودها، وأن تلك الأغاني في قائمتهم الشهرية لعزف الأغاني الأصيلة فاندهشت فقال لها أنهم يعزفون العديد من الأغاني بغاية الاستمتاع بالفن لمحبية، كل شهر بمكان، وأن حسن حظهم هو ما قادهم هذا الشهر ليكونوا هنا. وقبل أن ترد جاءها الموظف الذي قابلته في البداية وابتسم لها، وأثناء سيره معها نحو باب مختلف أثني علي تلك السهرة المميزة التي نادراً ما تحدث وشكر تواضعها لقبول الغناء في هذا المكان، فسألته عن رجل الأعمال الذي اتفق معهم ومعها علي هذا الحفل، فقال أنه لم يأت اليوم ولكنه رجل غريب أتي مرةً وشاهد القاعة ثم اتفق معهم علي اليوم، ولكن طلب منا أن ننتظر قليلاً، ولأن تلك القاعة شبه مهجورة ولا يأتي لها إلا القليل من وقت لآخر فلم يكن الانتظار مشكلة تعطل جدولها. فسألته عن العازفين فاندهش وقال أنهم أول مرة يأتون هنا، وكانوا يظنونهم معها وأتوا مبكرين عنها. وصلوا للباب فشكرته وحيته بودية فشكرها هو بحرارة مهذبة بينما عيناه نطقت بالامتنان والعرفان الجم. خرجت من المكتبة فاقتربت منها فتاة وفتي في غاية الأناقة في ثوبها الأزرق الداكن وبدلته الكحلية فابتسما في خجل.


-         ماريهان: قولا لي .. كيف اتفقتما جميعاً على أن تأتوا بثياب رسمية وكأنكم في الأوبرا وليس مكتبة صغيرة؟
-         الفتاة: المصادفة هي التي عرفتني على هذا الحدث علي الفيسبوك؟
-         ماريهان: الفيسبوك؟
-         الفتاة: نعم .. الدعوة كانت لحضور حفل راقي كحفلات الماضي وبسعر مناسب، بشرط أن يكون القادم محباً للفن ويتسم بسلوك هاديءٍ ويرتدي زياً رسمياً أنيقاً، الحفل سيتم سماع بعض الأغاني الأصيلة به والتمتع بسهرةٍ راقيةٍ أنيقةٍ في قاعة مكتبة.
-         الفتي: صدقاً لقد ارتبت في الأمر وظننته خدعة.
-         ماريهان: (بابتسامة وصوت خافت) كذلك أنا.
-         الفتي: ولإلحاحها وافقت .أ اتيت لحمايتها فقط من العودة متأخراً وحدها، ولم أتوقع الكثير بهذا السعر القليل في تلك المكتبة الصغيرة، وكنت سأشاركها الأمر فقط لأنها ترغب في ذلك، وكان كل ظني أنها ستجد الأمر مملاً ولن تهرول ثانيةً لمثل تلك الأمور.
-         الفتاة: ومفاجأتنا بوجودك خالفت ظنه.
-         الفتي: نعم ... لقد كان الأمر أروع مما تخيلت او تمنيت، هذة الروعة في استطعام الفن والنغم كدت أن أنساها، هذا الهدوء في الحركة والرقي في الزي والحوار والتعامل أبهج الروح ببهجة غريبة لم أعشها من قبل.
-         الفتاة: نظام الحياة اللاهث والفن الصاخب أضاع منا هدوءاً ومتعةً عاشها أهلنا ولم نفهمهم حين حكوا عنها لأننا لم نجربها.
-         الفتي: بل كنت أسخر منها في مشاهدتي لحفلات كاظم الساهر وهاني شاكر وغيرهم من مطربي الفن الذهبي.
-         ماريهان: أنتم لا تدركون ماذا فعلت سهرتنا اليوم تلك، وكلماتكم الآن.
-         الفتي والفتاة: ماذا فعلت؟
-         ماريهان: بابتسامة (ستعرفون في البومي القادم)
-         الفتاة: حقاً ؟!
-         الفتي: فعلاً اشتقنا لأغانيكِ.
-         ماريهان: بل وقدتماني أنتما إلي ما كنتُ تائهةً عنه ... ولا تسألا ما هو فستعرفان مستقبلاً.


    ابتسما لها وشكراها بشدة وطلبا منها - إن أمكن- أن تعيد هذة السهرة بنفس المكان أو في غيره يماثله بنفس السعر - ولو مرة سنوياً- حتي يستطيعا أن يحضراها ويحظيا بالاستمتاع بصوتها الشجي بشكلٍ مباشر فهو أمتع وأروع من أن يسمعوه من سماعات لا حياة بها. افترق طريقاهم، ودنت من سيارتها وهي تحاول الاتصال برجل الأعمال لشكره ولكن هاتفه كان مغلقاً.