الجمعة، 21 يونيو 2019

أزمة جنسية



أزمة جنسية









توقف الإنسان منذ زمن طويل عن حياة الرحالة، تقسمت الأرض لقارات ودول وأصبح لكل إنسان منشأ وجذور وارتباط بالأرض، يتجلى علي ملامحه وجلد جسده، وكتبت كل دولة كتبها التي تحدد حقوقها وواجباتها نحو كل فرد ولد وعاش علي أرضها. وأصبح لكل شخص هوية جغرافية يحن إليها وقت سفره، ويضحي بحياته ليحميها. ورغم إفصاح التاريخ بأن هذا الأمر ليس قانوناً سماوياً، وهناك من الدول التي بُذل الدم لأجلها ومع ذلك لم يعد لها وجود، وأحفاد أبنائها تفرقوا أو بقوا على أرضها حاملين هويات مختلفة عنها. إلا أن الأمر أصبح أكثر تنظيماً وتحكماً الآن، وإن جاء ذلك على حرية الإنسان المخلوق خارج حدود هذا الكوكب. وكم كانت أرض مصر قبلة ومكان جذب واستقطاب لملايين حولها لما اتسمت به من ظروف وأجواء معتدلة ورحيبة وخصبة، فأصبحت واحة الاستقرار لآلاف الرحالة الصحراويين، بل أنها استطاعت كذلك احتواء شتى الجنسيات ذات لغات تختلف عن أبنائها، واحتضنت تنوعاً ذاخراً وسخيا،ً فعاش على أرضها واستقر أبناء الخليج والمشرق والمغرب العربي وجاليات من أوروبا الشرقية والغربية بل وأبناء الشرق الأقصي كذلك بكل حب وتعاون وتناغم. اختلفت لغات وديانات وأصول وأهداف كل هؤلاء الوافدين ومع ذلك تجانسوا جميعاً، ولم يكرهها علي مدار الزمان سوى قلة لا تصل لثمن من عاشوا بها، ولكن كل ذلك كان واقعاً حتى القرن الأخير من الزمن. ولا تندهش للفظ قرن فعمر تلك البلد يزيد عن السبعين قرن كما تعلم، والهجرة موجودة منذ قديم الأزل، ولكن سهولة عملية التوثيق واسترداد البيانات مؤخراً، جعلت الأمر قابلاً للإحصاء رقمياً بشكلٍ أدق وأوقع، وقد أعطى هذا الإحصاء معلوماتٍ مخيفة.




بجانب الظروف الجغرافية التي حولت مصر من قطعة أرض لوطن لمستقريها في بدايات التاريخ - فأغرت العديد من أصحاب القوة بمحاولة الاستيلاء عليها منذ قديم الأزل حتى وقت قريب- كان التنوع في بيئاتها وتباين أهلها وامتداد مساحتها وتاريخها أُسساً لازدهار كافة الأنشطة والفنون والحرف والعلوم وغيرها من مقومات الحياة التي ينشدها البشر في أرجاء الأرض، ولأن عالمي الفن والرياضة أبرز ما يتم تداول أخباره فتنشر بشكل موسع وتصل لآلاف البشر دون جهد منهم، ظهر للكل محاولاتٌ للتجنس والانتماء لمصر من بلاد عدة، فحصل الكثير علي الجنسية المصرية دون أن يولدوا بها هم أو آبائهم، سواء كان ذلك بطلبهم كصباح وفريد الأطرش ومادلين طبر مؤخراً، أو كتكريم علي جهودهم فيها كوديع الصافي وبيرم التونسي ومحمد خان، أو بالزواج من أبنائها كماري منيب وفايزة أحمد ووردة وهند صبري وسميرة سعيد وغيرهن، أو لأسباب أخرى كهند رستم وفريد شوقي وشويكار وعبد السلام النابلسي وسامو زين وأحمد مكي وغيرهم. وبهذا الوضوح وهذه الكثرة يصل للأغلبية صورة مصر الداعمة للجميع، والفاتحة أحضانها لشتى أبناء الأرض لمساعدتهم للاستقرار بها والنجاح علي أرضها.





ولكن كما أظهر الفن ذلك فقد صدم هو والرياضة الجميع حين أظهرا مؤخراً العكس تماماً بنشرهما أخبار لجوء مشاهيرهما لتجنيس مواليدهم ومواليد أبنائهم بجنسيات أجنبية أشهرها الأمريكية والإنجليزية، وذلك بسفر الفنانات أو زوجات الفنانين والرياضيين للإنجاب في البلد المرجوة جنسيتها، ومن هؤلاء غادة عبد الرازق وخالد سليم وتامر حسني وزينة وكارول سماحة- الحاصلة علي الجنسية المصرية من زوجها- وبشرى وماجد المصري ومحمد عبد المنصف وغيرهم الكثير، بل والمخزي هو تصريح بعضهم كنشوى مصطفي بالندم علي عدم أخذ تلك الخطوة في الوقت المناسب.




ورافق ذلك نشر مصلحة الجوازات والهجرة التابعة لوزارة الداخلية بيان بأحدث إحصائياتها بالجريدة الرسمية "الوقائع المصرية" يفيد بتنازل أكثر من 3000 مصري عن جنسياتهم بالعِقد الأخير، معظمهم بمحض إرادتهم، وقلة منهم من حاول إعادة استردادها، وأقل منهم من نجح في ذلك. وهؤلاء المتنازلون ليسوا من أبناء العاصمة فحسب، بل ومن باقي المحافظات كذلك، سعوا للحصول علي جنسيات أجنبية كالألمانية والكندية والهولندية والنمساوية والبريطانية والأمريكية وغيرها، ونتج عن هذا التهافت –الموازي للأسف لتصاعد الإرهاب عالمياً والحروب والهجرة- إعادة مناقشة تغيير قوانين منح الجنسية لدي العديد من البلاد الغربية، أبرزهم إعلان الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" في نهاية أكتوبر 2018 عن نيته إصدار أمر تنفيذي يلغي حق منح الجنسية الأمريكية للأطفال المولودين في أمريكا لأبوين غير أمريكيين. فمتي وكيف تحولت مصر من بلد جاذب، العقاب الأقصي فيها هو النفي منها، لبلدٍ منفر أصبح عقاب شبابها هو عدم قدرتهم علي الرحيل منها لبلاد تختلف تماماً في طقسها وثقافتها وتاريخها، ولا تحمل بين شوارعها الأهل والأصدقاء والذكريات ورفاق الطريق ذوي اللغة والذاكرة الجمعية نفسها. في وقت تسعى فيه بعض الدول لمنح شبابها المسافر مزايا بالخارج تسعده أينما كان وتوطد اتصاله ببلده مهما ابتعد عنها.




الأمر ليس هيناً أن ترحل وتنتمي لأي مكان، فكما ذكرنا بالبداية لم يعد العالم مفتوحاً للارتحال بحرية أينما ووقتما تريد، وللسخرية زامن ذلك زيادة يسر وسرعة الانتقال من مكان لآخر ومن بلد لغيرها مهما تباعدا عن بعض، فلتلك الخطوة إجراءات وشروط عديدة صعبة قد لا تتحقق للكثير، ولتقريب الصورة كان هناك فيلم أميركي للممثل "توم هانكس - Tom Hanks" عرض عام 2004 بعنوان "المحطة The terminal-" عن مواطن سقطت حكومة دولته أثناء سفره، فلم يعد لهويته الوطنية وجود، ورفضت الدولة المسافر لها السماح له بالتواجد علي أرضها دون أوراق ثبوتية مقبولة قانونياً.





 وقصة هذا الفيلم مستوحاة من قصة حقيقية لمواطن يدعي "مهران كريمي ناصري" وهو إيراني غضبت عليه دولته ونفته خارج أرضها فهام منبوذا من كل البلدان، هكذا الأمر للمتنازل عن هويته، ولكن دون سقوط دولة نشأته أو نفيها له، إنسان بلا جذور، لا تعترف به الدول، ولا ترحب بوجوده، ذكرياته شأنه الخاص، ولا قيمه لها لدي الجميع. وإن لم يعد نفسه قبل التنازل لربما يموت جوعاً في الأراضي الدولية المفتوحة والمسموحة للجميع، والمسورة داخل المطارات.




وشروط التجنس في مصر واضحة، أن تكون مستقراً بها أنت أو والديك منذ عام 1914 وغير تابع لدولة أخري منذها، أو حاصل على الجنسية منذ عام 1958، أو مولود في مصر لأم مصرية ووالد غير معروف أو لا جنسية له أو غير معروف جنسيته، أو بعد الإقامه فيها لأكثر من عشرة أعوام متصلة، أو للنساء المتزوجات من مصري بموافقته وبعد عامين من الإقامة، وللحالة الأخيرة تسقط الجنسية عنهن بالطلاق أو موت الزوج.



أما لإسقاط الجنسية فيحدث ذلك بموافقة الداخلية إذا طلب ذلك لرغبة المتنازل في جنسية أجنبية ما، فهناك دول لا تقبل إزدواج الجنسية وتشترط التنازل للحصول علي جنسيتها، كألمانيا والنرويج وموريتانيا والسعودية والنمسا وهولندا وغيرهم، أو بقرار من مجلس الوزراء لإسقاط الجنسية عن المتجنسين حديثاً لوجود خطأ أو تزوير في البيانات أو اتهامهم بجريمة جنائية أو تجسس أو جريمة شرف أو للإضرار بالأمن أو لعدم إقامتهم في مصر لعامين متتاليين دون تقديم عذر مقبول للداخلية. وتسقط الجنسية كذلك في حالة التجنس لإسرائيل أو الانتماء للمؤسسة العسكرية بدولة أخرى أو الحصول علي جنسية أجنبية دون إخطار المسئولين.



وبسؤال المتنازلين وراغبي التنازل عن أسبابهم ذكروا أسباباً عدة أبرزها الأتي:-

-        الجنسية المصرية لا تمنح مميزات إلا لأصحاب رؤوس الأموال والعاملين في قطاع السينما والرياضة وكبار المسئولين في الهيئات الحكومية والقضاء والأمن، ولا فائدة منها لبقية الملايين من عامة الشعب، فهي لا توفر حياة آدمية مقبولة، أو تأمينات صحية جيدة، أو معاشات مناسبة، أو تكافل اجتماعي معقول.

-        الحياة في مصر تتسم بسيادة المادة والجشع وانتشارالرشوة والفساد والفوضى والظلم والإهمال، مع ازدياد البطالة والقذارة والتعصب والجهل والابتذال دون العمل علي محاربتهم.

-        الناجحون يعيشون بالخارج لغياب الأمل في توفير بيئة عمل منتجة.

-        زيادة الضرائب وتحصيلها من متوسطي ومحدودي الدخل فقط، مع السماح للأثرياء بالتهرب منها.

-        عدم محاسبة المسئولين عن إزهاق الأرواح الناتج عن الإهمال والغش.

-        الاضطهاد السياسي وغياب احترام الحقوق والحريات والإنسانية من قبل الجهات الأمنية.



وما أجمع عليه الجميع هو أنهم لا يرغبون ترك الوطن، ولكنهم كانوا يأملون أن يعيشوا في بيئة نظيفة متحضرة، لها كيان سياسي باقتصاد جيد، يعاملهم بشكل حسن وباحترام، وتقوم مؤسساته بتقديم خدماتها بفاعلية واجتهاد. ولعدم وجود كل ذلك، خشوا أن يضيع العمر سُدى، فتمسكوا بإعلان حقوق الإنسان العالمي الذي يقول: "من حق أي مواطن الهجرة".