الثلاثاء، 6 سبتمبر 2022

في ذكري رحيله

 أبى






 رحل جارنا يا أبى، وسبقه جارنا الذى يسكن أسفل بيته، لحقوا بك فهل رأيتهما؟ رحلتم وتركتمونا يا أبى، وكم طعم الفراق مرير، ربما تأخذنا مشاغل الحياة من مشاعرنا فتتزاحم التفاصيل فى يومنا لننسى أنفسنا ذاتها، ولكن فى العمق يكمن كامل الالم مرافق الجرح الدامى الذى ينبض مع نبض قلوبنا وسيرافقنا حتى النهاية.



حين علمت بوفاة جارينا كانت تلك الاخبار شديدة الحزن، ولكن لم أشعر سوى بالصدمة والشفقة على ابنائهما، وكأن المشاعر تبددت بوفاتك يا أبى، ولكن حين ذهبت لمواساتهم نشب الألم أنيابه فى واندفعت دموعى حاملة حزنى وحزنهم معاً فهربت لأترك نفسى لدموعى بلا مشاهدين، أعلم أنه طبيعى أن أبكى فى تلك المواقف، ولكن لم أرغب أن أيقظ الألم المبكى بداخلهم، وهذا دأبى على كل حال الانزواء بالألم أو للألم.



أه يا أبى، يقتلنى غيابك وأنا لم أقدر وجودك حق قدرك، لكم تهربت من حواراتى معك لأختلافنا وما أدركت أننى سأندم كل هذا الندم الان، أصابنى التخبط بعدك وبقيت شهوراً تهرب منى الكلمات وأنا صديقتها القديمة، خفت ان يخفت شعورى فلا أستطيع الكتابة عنك لك بعد مرور الوقت، ولكن حين مسكت القلم تسابقت الافكار والذكريات والدموع والكلمات فزاد تخبطى وتيهى. عرفت يا أبى بعد رحيلك أن أقسى شعور بعد الاحتضار هو وداع الاحباء النهائى، باغتنى يا أبى رغم أنك أبلغتنى عدة مرات بحتمية رحيلك والعقل يدرك ان تلك حقيقة ولكن القلب لم يقبل تحذيرك كما لا يقبل غيابك الان، مازالت فى حالة إنكار نفسي على عكس كلامى مع الجميع، وأدعوا لك وأصبر والدتى وأبنتى وأبكى وحدى.



أقول اننى أحمد الله على وجودى معك فى أخر أيامك، وهذا حق عدا أن روحى ترفض فكرة رحيلك، أذكر نفسى بأيام النهاية وما بعدها من بكاء وصلاة ولحد فينهمر البكاء ويشتد الألم والندم ويستمر الانكار، أدعو لك بالرحمة وأطلب منك الصفح على إنزوائى فى حياتك، فيربت على زوجى مخبراً إياى انك كنت تدرى طبعى ولا تلومنى عليه وكانت دعواتك لى بالرفقة محبة لى لا عتاب على تقصير.



لا أعلم هل تسمع تلك الكلمات التى تنطقها روحي ليرسمها الحبر على الاوراق فى صمت أم أنى فقط أمل ذلك، على اى حال أحب أخبرك أن لا تقلق فقد أحسنت لى كثيراً حتى لو لم أستشعر ذلك سابقاً، كنت حمقاء يا أبى وأنضجنى فراقك فوق ما أحتمل، كانت مواقفك للنهاية نبراساَ لى لأتعلم، كعجين الفخار عليه أن يحترق بلهيب النيران حتى يشتد ويصير أقوى. لست أقسى لا تقلق، أذكر كلماتك ومواقفك لأتعلم من تجربتك بالحياة، وكم كانت مميزة وتشابه روحى كثيراً، كنت الاقرب شبها لك روحاً ولكن لسذاجتى جعلت الاختلافات والهيبة تطفو لتفقدنى من حياتك الكثير من التواصل والمتعة. أشكرك يا أبى أنك كنت أبى، ووداعاً الى حين، لعل ربي يغفر لنا جميعاً ويرأف بوهن أرواحنا ويصفح عنا ذلاتنا وتقصيرنا ليجمعنا برحمته فى جناته العاليه. عاليه حفيدتك لم تستمع برفقتك وان كانت تشبهك بعض الشىء. أدع لى يا أبى عندك أن احسن اليها هى واختها كما أحسنت أنت لى ولآخوتي، فأستحق منهم محبة تقارب محبتك بداخلى.



الاثنين، 15 أغسطس 2022

نورسانتي - الجزء الأول

(1)



رفع رأسه ببطء وهو يتأوه، بصق شيئاً شعر به بفمه ممزوجاً بسائلٍ ظنَه لعابَه حتى رآه على الأرض بجانب جسده المسجيِّ على الرمال البيضاء، كان أحد الضروس مكسوراً ومختلطاً بالرمال والدماء. تحسس بلسانه أسنانَه ليعرف مكانه لعجزه عن تبين مكانه استدلالاً بالألم، فكل وجهه وجسده يؤلمانه بشدة.


اعتدل جالساً ونظر حوله، ففزع حين رأى أنه في مكان مقفر لا يوجد به سواه، فلاة ممتدة علي مرمى بصره، حاول الوقوف ولكن ساقه اليسري لم تُعِنه، بل على العكس زاد توجعُه منها على بقية الجسد بشكلٍ لفت نظره لتخضب بنطاله بالدماء، فرضخ وعاد للجلوس جاهلاً ما يمكن أن يقوم به أو يساعده في الورطة التي وجد نفسه فيها.


حاول أن يهدأ ويتمالك أنفاسه كما نصحته أخته عفاف مراراً، كان لتذكرها طيب الأثر عليه، ولكن ما مرت ثوانٍ حتى زال الأثر لتذكر ما يرتبط بها ويؤلم، تذكَّرَ أنها رحلت وتركته رغم علمها بأنه يتيمٌ دونَها بعد وفاةِ والديهما منذ عقدٍ مضى، تذكر أنها لم تعد موجودةً في حياته سوى مجرد ذكرى شديدةِ العذوبةِ والشجن، تذكر أنها غابت عنه وتُوفيت نتيجةً لوباءٍ اكتسح العالم فغفل عنه وهو غير محتاطٍ صحياً في تعاملاته اليومية، وأصابها هي التي لم تغادر بيتَها منذ اقترنت بـ(سامح). (سامح) .. هذا اللعين.


كان تذكُّر هذا الشخص أمراً بغيضاً لم يتمنَّه في هذا الوقت وهذا المكان، ولكنه كان خير وسيلة ليتذكر كيف أتى إلى هنا وأين هو.

للمتابعة


الجمعة، 21 يونيو 2019

أزمة جنسية



أزمة جنسية









توقف الإنسان منذ زمن طويل عن حياة الرحالة، تقسمت الأرض لقارات ودول وأصبح لكل إنسان منشأ وجذور وارتباط بالأرض، يتجلى علي ملامحه وجلد جسده، وكتبت كل دولة كتبها التي تحدد حقوقها وواجباتها نحو كل فرد ولد وعاش علي أرضها. وأصبح لكل شخص هوية جغرافية يحن إليها وقت سفره، ويضحي بحياته ليحميها. ورغم إفصاح التاريخ بأن هذا الأمر ليس قانوناً سماوياً، وهناك من الدول التي بُذل الدم لأجلها ومع ذلك لم يعد لها وجود، وأحفاد أبنائها تفرقوا أو بقوا على أرضها حاملين هويات مختلفة عنها. إلا أن الأمر أصبح أكثر تنظيماً وتحكماً الآن، وإن جاء ذلك على حرية الإنسان المخلوق خارج حدود هذا الكوكب. وكم كانت أرض مصر قبلة ومكان جذب واستقطاب لملايين حولها لما اتسمت به من ظروف وأجواء معتدلة ورحيبة وخصبة، فأصبحت واحة الاستقرار لآلاف الرحالة الصحراويين، بل أنها استطاعت كذلك احتواء شتى الجنسيات ذات لغات تختلف عن أبنائها، واحتضنت تنوعاً ذاخراً وسخيا،ً فعاش على أرضها واستقر أبناء الخليج والمشرق والمغرب العربي وجاليات من أوروبا الشرقية والغربية بل وأبناء الشرق الأقصي كذلك بكل حب وتعاون وتناغم. اختلفت لغات وديانات وأصول وأهداف كل هؤلاء الوافدين ومع ذلك تجانسوا جميعاً، ولم يكرهها علي مدار الزمان سوى قلة لا تصل لثمن من عاشوا بها، ولكن كل ذلك كان واقعاً حتى القرن الأخير من الزمن. ولا تندهش للفظ قرن فعمر تلك البلد يزيد عن السبعين قرن كما تعلم، والهجرة موجودة منذ قديم الأزل، ولكن سهولة عملية التوثيق واسترداد البيانات مؤخراً، جعلت الأمر قابلاً للإحصاء رقمياً بشكلٍ أدق وأوقع، وقد أعطى هذا الإحصاء معلوماتٍ مخيفة.




بجانب الظروف الجغرافية التي حولت مصر من قطعة أرض لوطن لمستقريها في بدايات التاريخ - فأغرت العديد من أصحاب القوة بمحاولة الاستيلاء عليها منذ قديم الأزل حتى وقت قريب- كان التنوع في بيئاتها وتباين أهلها وامتداد مساحتها وتاريخها أُسساً لازدهار كافة الأنشطة والفنون والحرف والعلوم وغيرها من مقومات الحياة التي ينشدها البشر في أرجاء الأرض، ولأن عالمي الفن والرياضة أبرز ما يتم تداول أخباره فتنشر بشكل موسع وتصل لآلاف البشر دون جهد منهم، ظهر للكل محاولاتٌ للتجنس والانتماء لمصر من بلاد عدة، فحصل الكثير علي الجنسية المصرية دون أن يولدوا بها هم أو آبائهم، سواء كان ذلك بطلبهم كصباح وفريد الأطرش ومادلين طبر مؤخراً، أو كتكريم علي جهودهم فيها كوديع الصافي وبيرم التونسي ومحمد خان، أو بالزواج من أبنائها كماري منيب وفايزة أحمد ووردة وهند صبري وسميرة سعيد وغيرهن، أو لأسباب أخرى كهند رستم وفريد شوقي وشويكار وعبد السلام النابلسي وسامو زين وأحمد مكي وغيرهم. وبهذا الوضوح وهذه الكثرة يصل للأغلبية صورة مصر الداعمة للجميع، والفاتحة أحضانها لشتى أبناء الأرض لمساعدتهم للاستقرار بها والنجاح علي أرضها.





ولكن كما أظهر الفن ذلك فقد صدم هو والرياضة الجميع حين أظهرا مؤخراً العكس تماماً بنشرهما أخبار لجوء مشاهيرهما لتجنيس مواليدهم ومواليد أبنائهم بجنسيات أجنبية أشهرها الأمريكية والإنجليزية، وذلك بسفر الفنانات أو زوجات الفنانين والرياضيين للإنجاب في البلد المرجوة جنسيتها، ومن هؤلاء غادة عبد الرازق وخالد سليم وتامر حسني وزينة وكارول سماحة- الحاصلة علي الجنسية المصرية من زوجها- وبشرى وماجد المصري ومحمد عبد المنصف وغيرهم الكثير، بل والمخزي هو تصريح بعضهم كنشوى مصطفي بالندم علي عدم أخذ تلك الخطوة في الوقت المناسب.




ورافق ذلك نشر مصلحة الجوازات والهجرة التابعة لوزارة الداخلية بيان بأحدث إحصائياتها بالجريدة الرسمية "الوقائع المصرية" يفيد بتنازل أكثر من 3000 مصري عن جنسياتهم بالعِقد الأخير، معظمهم بمحض إرادتهم، وقلة منهم من حاول إعادة استردادها، وأقل منهم من نجح في ذلك. وهؤلاء المتنازلون ليسوا من أبناء العاصمة فحسب، بل ومن باقي المحافظات كذلك، سعوا للحصول علي جنسيات أجنبية كالألمانية والكندية والهولندية والنمساوية والبريطانية والأمريكية وغيرها، ونتج عن هذا التهافت –الموازي للأسف لتصاعد الإرهاب عالمياً والحروب والهجرة- إعادة مناقشة تغيير قوانين منح الجنسية لدي العديد من البلاد الغربية، أبرزهم إعلان الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" في نهاية أكتوبر 2018 عن نيته إصدار أمر تنفيذي يلغي حق منح الجنسية الأمريكية للأطفال المولودين في أمريكا لأبوين غير أمريكيين. فمتي وكيف تحولت مصر من بلد جاذب، العقاب الأقصي فيها هو النفي منها، لبلدٍ منفر أصبح عقاب شبابها هو عدم قدرتهم علي الرحيل منها لبلاد تختلف تماماً في طقسها وثقافتها وتاريخها، ولا تحمل بين شوارعها الأهل والأصدقاء والذكريات ورفاق الطريق ذوي اللغة والذاكرة الجمعية نفسها. في وقت تسعى فيه بعض الدول لمنح شبابها المسافر مزايا بالخارج تسعده أينما كان وتوطد اتصاله ببلده مهما ابتعد عنها.




الأمر ليس هيناً أن ترحل وتنتمي لأي مكان، فكما ذكرنا بالبداية لم يعد العالم مفتوحاً للارتحال بحرية أينما ووقتما تريد، وللسخرية زامن ذلك زيادة يسر وسرعة الانتقال من مكان لآخر ومن بلد لغيرها مهما تباعدا عن بعض، فلتلك الخطوة إجراءات وشروط عديدة صعبة قد لا تتحقق للكثير، ولتقريب الصورة كان هناك فيلم أميركي للممثل "توم هانكس - Tom Hanks" عرض عام 2004 بعنوان "المحطة The terminal-" عن مواطن سقطت حكومة دولته أثناء سفره، فلم يعد لهويته الوطنية وجود، ورفضت الدولة المسافر لها السماح له بالتواجد علي أرضها دون أوراق ثبوتية مقبولة قانونياً.





 وقصة هذا الفيلم مستوحاة من قصة حقيقية لمواطن يدعي "مهران كريمي ناصري" وهو إيراني غضبت عليه دولته ونفته خارج أرضها فهام منبوذا من كل البلدان، هكذا الأمر للمتنازل عن هويته، ولكن دون سقوط دولة نشأته أو نفيها له، إنسان بلا جذور، لا تعترف به الدول، ولا ترحب بوجوده، ذكرياته شأنه الخاص، ولا قيمه لها لدي الجميع. وإن لم يعد نفسه قبل التنازل لربما يموت جوعاً في الأراضي الدولية المفتوحة والمسموحة للجميع، والمسورة داخل المطارات.




وشروط التجنس في مصر واضحة، أن تكون مستقراً بها أنت أو والديك منذ عام 1914 وغير تابع لدولة أخري منذها، أو حاصل على الجنسية منذ عام 1958، أو مولود في مصر لأم مصرية ووالد غير معروف أو لا جنسية له أو غير معروف جنسيته، أو بعد الإقامه فيها لأكثر من عشرة أعوام متصلة، أو للنساء المتزوجات من مصري بموافقته وبعد عامين من الإقامة، وللحالة الأخيرة تسقط الجنسية عنهن بالطلاق أو موت الزوج.



أما لإسقاط الجنسية فيحدث ذلك بموافقة الداخلية إذا طلب ذلك لرغبة المتنازل في جنسية أجنبية ما، فهناك دول لا تقبل إزدواج الجنسية وتشترط التنازل للحصول علي جنسيتها، كألمانيا والنرويج وموريتانيا والسعودية والنمسا وهولندا وغيرهم، أو بقرار من مجلس الوزراء لإسقاط الجنسية عن المتجنسين حديثاً لوجود خطأ أو تزوير في البيانات أو اتهامهم بجريمة جنائية أو تجسس أو جريمة شرف أو للإضرار بالأمن أو لعدم إقامتهم في مصر لعامين متتاليين دون تقديم عذر مقبول للداخلية. وتسقط الجنسية كذلك في حالة التجنس لإسرائيل أو الانتماء للمؤسسة العسكرية بدولة أخرى أو الحصول علي جنسية أجنبية دون إخطار المسئولين.



وبسؤال المتنازلين وراغبي التنازل عن أسبابهم ذكروا أسباباً عدة أبرزها الأتي:-

-        الجنسية المصرية لا تمنح مميزات إلا لأصحاب رؤوس الأموال والعاملين في قطاع السينما والرياضة وكبار المسئولين في الهيئات الحكومية والقضاء والأمن، ولا فائدة منها لبقية الملايين من عامة الشعب، فهي لا توفر حياة آدمية مقبولة، أو تأمينات صحية جيدة، أو معاشات مناسبة، أو تكافل اجتماعي معقول.

-        الحياة في مصر تتسم بسيادة المادة والجشع وانتشارالرشوة والفساد والفوضى والظلم والإهمال، مع ازدياد البطالة والقذارة والتعصب والجهل والابتذال دون العمل علي محاربتهم.

-        الناجحون يعيشون بالخارج لغياب الأمل في توفير بيئة عمل منتجة.

-        زيادة الضرائب وتحصيلها من متوسطي ومحدودي الدخل فقط، مع السماح للأثرياء بالتهرب منها.

-        عدم محاسبة المسئولين عن إزهاق الأرواح الناتج عن الإهمال والغش.

-        الاضطهاد السياسي وغياب احترام الحقوق والحريات والإنسانية من قبل الجهات الأمنية.



وما أجمع عليه الجميع هو أنهم لا يرغبون ترك الوطن، ولكنهم كانوا يأملون أن يعيشوا في بيئة نظيفة متحضرة، لها كيان سياسي باقتصاد جيد، يعاملهم بشكل حسن وباحترام، وتقوم مؤسساته بتقديم خدماتها بفاعلية واجتهاد. ولعدم وجود كل ذلك، خشوا أن يضيع العمر سُدى، فتمسكوا بإعلان حقوق الإنسان العالمي الذي يقول: "من حق أي مواطن الهجرة".


الثلاثاء، 4 سبتمبر 2018

العمق السطحي







المعتادُ أن القراءةَ ظاهرةٌ صحية، توسع من مدارك صاحبها، وتزيده علماً وخبرةً تُنضِجان عقله، ومدَّعي الثقافةِ دائماً ما ينكشف سريعاً بمجرد تكلُّمه، ولكن مؤخراً ظهرت فئةٌ جديدةٌ غيرُ مُعتادةٍ من المثقفين، وذلك بعد تحول صناعة الكتب إلي تجارة. يقيم بعض الأشخاص دوراً للنشر تستلم من كل كاتب أوراقَه ومبلغاً ماليّاً لتصنع من كلماته كتاباً دون الاهتمام لقيمة تلك الكلمات من عدمها، والكاتب كذلك أدرك أن رواجه لدى القراء والناشرين معتمدٌ على ملائمة كلامه لذوق المتلقي -الذي للأسف تدنَّى كثيراً في الفترة الأخيرة- فيبتذل أو يكتب ما لن يزيد قارءه شيئاً، مجرد كلمات تشغل أمسياته فتداعب أحلامه حيناً، وتلعب علي أشجانه حيناً أخري، وتسليه في باقي الأحيان، دون أن تثقفه أو تصقل شخصيته وعقله، أو تهذب من أخلاقه، بل وكثيراً من الأحيان تعطيه معرفةً والفاظاً مبتذلةً هو في غنى عنها، حتي اللغة ذاتها تضمحل بعدما هاجمتها العامية بضراوة في عقر دارها علي الأوراق، لم تعد العامية جزءاً صغيراً يدسُّ نفسه بخجلً تحت مُسمى التقريب للصورة الذهنية للقاريء، بل أصبحت هناك كتبٌ روائية وغيرها- كلها بالعامية- تحكي عن أبطال خياليين أو مواقف للكُتّاب أنفسهم تشمل سباباً أحياناً يؤذي القاريء بدلاً من تهذيبه والسمو به.



الكارثة الحقيقية ليست في وجود كتب غثة، فلطالما كانت موجودةً وتتداول قليلاً ثم تتحول أوراقها لقراطيس للطعام او المسليات، وقارئُها مع الوقت يدرك أنها لا تزيده إلا جهلا، ولكن في رواجها واكتساحها لسوق الكتب على حساب أقلامٍ واعيةٍ ثمينة، بل واستقطابها لجمهور صغار الشباب من المراهقين والبسطاء ممّن يقْرُبونهم سناً، هؤلاء هم رجال ونساء الغد الذين يجهلون من هم مصطفى مشرفة ومحمود تيمور وغيرهم من العلماء والأدباء الذين أثروا الكتب بعلوم وخبرات حياتية ومؤلفات غيرت من مسار حياة الكثيرين وأثرت في الإنسانية ذاتها.



والمضحكُ المبكي حالياً هو تحوُّل القراءةِ لموضة، فيلتقط القاريء صورا مع كتبٍ لن يقرأها وإن قرأها فلن يكملها، ويتخير من الكتب أخفَّها وأقربَها للغته أو تفكيره ليقرأها، فقط ليتسلي ثم يتظاهر بالثقافة حين يناقش أصدقاءه عنها. قد يختلف معي المفكرون في رأيي، ولكنني أشعر بالغيرة نحو الأدب واللغة، فهجرة القراء للكتب القيِّمةِ أفضل لي من فيضان الكتب الرخيصة أو الهشة التي لن تثمر إلا قراء مثقفين بمستويً سطحيّ.



الغربه والاغتراب




  في عام 2011 بعد الثورة المصرية بشهور عدة، لم تكن الثورة أجهضت وفشلت بعد، ولكن كانت الصورة بدأت تغيم، كنت وقتها أعمل -أو يستنزف مجهودي بدون أجر كما عرفت بالنهاية- في مؤسسة اليوم السابع، كنت أختلف مع سياستها التي لا تتقيد بأي قوانين أو تشريعات صحفية، ولكن لا يمكن كذلك إنكار إنها مؤسسة كبيرة والعمل بها بعد تخرجي بعام واحد يعد فرصة كبيرة، فقد وقتها تخيرت أن أعمل في جانب منها لا تتصادم فيه قناعاتي ودراستي للصحافة بأسسها وأخلاقها مع سياسة المؤسسة.






كنت أعد برنامج فني إذاعي يتحدث عن الفرق الغنائية المصرية التي توقفت، وكنت أستمع لأغانيهم أيضاً للتعرف عليهم بشكل أشمل، ففاجأتني أغنية الحدود، وكان لها وقع وأثر غريب عليّ. وهي أغنية لفرقة الأصدقاء التي أسسها الموسيقار عمار الشريعي عام 1980 مع حنان ومنى عبد الغني وعلاء عبد الخالق. لم أكن سوي مجرد مستمعة صغيرة لا تفهم الكثير في الموسيقي، ولكن بمجرد البداية أختطفتني الموسيقي، ومع غناء الكلمات بدأ خيالي يرسم تلك الصورة التي تصفها الكلمات والأنغام، وأخذوني رغماً عني من واقعي وحاضري لأرافقهم في الطائرة وأشاركهم أفكارهم ومشاعرهم وحتي حواراتهم مع من حولهم. بكيت أثناء الأستماع وشعرت بألام الأغتراب والوداع وأنا في مكاني مجرد فتاة لم تخرج من بلدها أبداً. شعرت بأفتقاد ما يصفونه من سمات بلدي وهي حولي. الأغنية كانت عظيمة وأشعرتني كم هي قاسية تلك الغربة التي تطمحين إليها لسوء الواقع وتدهوره، أصبري فلربما التغييرات الأخيرة بالبلاد تحمل الخير ولكن علي المدي البعيد. ثم بدأت التعرف أكثر من خلال والإستماع لحكايا من حولي من أهل وأصدقاء وغيرهم عن تجربة الغربة ومرارها ومسالبها التي تفوق مزيتها الوحيدة العظيمة التي سلبتها عمداً بلدنا منا.







كانت لتلك الأغنية مع جملة بسيطة في تتر مسلسل التقتطها روحي ولم تنسها مثلما نسيت باقي تفاصيل المسلسل أكبر تأثير رادع عليَ في سعيي للرحيل، هما وعشرات الأفكار المخيفة قيدوني لأرض طيبة ذات مالك فاسد رغم تطلع روحي للأنطلاق لا لجهة محددة، بل للعالم ككل. المسلسل كان يحكي عن رحلة شخص تغرب ولم يجد في غربته ما هرب منه في بلده، مسلسل مقتبس من رواية إلا فاطمة، شاهدت المسلسل وقرأت الرواية وترك كلاهما تأثيرهما الردعي علي روحي بتكثيف المشاعر وأحداث في جملة واحدة ترن في أذني كلما فكرت بالرحيل.







ومر زمناً، سنوات معدودة ولكن كثيفة التفاصيل مزدحمة الأحداث أنستني الكثير، منه ما سبق سرده في السطور السابقة، وكلما نضجت كلما زادت قدرتي علي التماهي مع الواقع بسوءه متمسكة -دون وعي- بالأشياء الصغيرة الجميلة المصرية التي وصفت بالأغنية وأشباهها مما حولي، روح التمرد والعنفوان القديم تم تشذيبهم مع الأيام لأصبح كمن حولي من جيلي مزيج من سلوكيات موروثة وصفات عامة وشئ مني حتي لا أنسي من أنا. بقيت هكذا حتي أتت ممثلة شهيرة في برنامجها ذائع الصيت بإيقاظ كل هذا، لأجد إنني لم أنسي، فقد تناسيت وظلت ذكري كل فكرة وكل شعور منزوية فقط في زاوية بعيدة من الذاكرة، جمع البرنامج أعضاء الفرقة المتشتتون ليعيدوا غناء بعض أغانيهم القديمة وكانت بينهم تلك الأغنية التي ظهرت في بدايات الثمانينات -قبل مولدي- لتعبر عن جيل دفع للرحيل لطمع مسئوليه في لقمته، أغنية قاسية عليّ ذات لحن حنون بشدة وحزين جداً وكلمات متشبعة بالروح المصرية حاملة في صوت مغنيينها تلك المرة أثر السنون التي غيرتهم كثيراً، ثلاث عقود ونصف بين الأغنيتين حولت نضارة صوتهم لعمق أزاد الأغنية مشاعر أشد وأقوي. وبكيت مجدداً مدركة بعد ما يقارب عقد من عمري أنا إن الهوية لعنة داخلية قبل أن تكون خارجية، فربما خارجياً تفرض عليك أن تعامل بشكل معين في مكان قصدته ساعياً الا تجد به إلا المساواة دون تمييز والكرامة والإنسانية والحياة الطيبة، ولكنها داخلياً أيضاً لأنك بعد أن تجد كل ما سعيت له - إن وجدته- ستشتاق وتحن لبلدك ولو بكل ما فررت منه.









و في النهاية أجد نفسي لا يعلق بروحي من كل هذا سوي "من غربتك في بلاد اهلك لغربتك في بلاد الله" أي إنك دوماً غريب وفي كل مكان، و "أبتدى شئ ينجرح جوه الوجود .. وأبتدينا أسئلة مالهاش ردود" .. أي ستظل أسئلتك رغم جرحك بلا أجابة.





الخميس، 5 أبريل 2018

رواية اللعنة (9)













جرى سعد وأحمد نحو رؤوف ونزعوه بصعوبة من فوق حسن، وأجلسوه على أقرب كرسي فأكمل بكاءه ونشيجه وهو يشهق بعمق وعنف وصعوبة جلسا بجانبه مجهدين بينما انحنت الأم على حسن تتأكد من بقاءه حياً ثم تنفست الصعداء واحتضنته وهما جالسان على الأرض بينما بدأت ندى تهدأ وتتمالك أنفاسها وجلست على الأريكة منهكة وظلوا صامتين جميعهم حتى أنهى الأب بكاءه و اعتدل حسن وأسند ظهره على الجزء الأسفل من الأريكة بجانب ساق أخته وجلست أمه  بجانبه بعد أن هدأت كذلك.

وجه الأب الكلام لحسن ودار الحوار بينهما بينما الجميع صامت يتابعهما بهدوء والأم صامتة بغضب بينما تظهر الحيرة علي وجهي أحمد وسعد اللذين فاجأهما الحوار بشدة:

-      عايز إيه يا حسن منا بعد ما قتلت أبوك ؟
-       أنس مش أبويا و أنا ما قتلتوش
-      كداب
-      مش هتقدر تكدبني بعد كدا
-      نعم ؟
-       أنا رحت المستشفى قبل ما اجي مصر ومعايا الدلائل اللي تثبت بنوتي ليك انت
-      والكلام دا ما ظهرش قبل كدا ليه ؟ ولا انت كنت مستني لغاية ما يموت أنس علشان ما يكدبش بنفسه اللي انت بتقوله ؟




-      عمى أنس أحن وأحسن منك بكتير وبجد كان نفسي يكون هو أبويا ويعيش مع أمي، كتر خيره أواني لما انت بعتني وعمره ما حسسني انى مش ابنه، بعد ما عرفت دا وهو حكالي لما سألته، ما كنتش اقدر اجرحه بتمسكي بيك بعد كل اللي عملته فيا انا وأمي.
-      كداب .. و غصب عنه كان لازم يعمل كدا .
-      مش معنى ان الكلام مش على هواك هتكدبه .. إسأل ماما و هي هتأكدلك.
-      أمك الوحيدة اللي مالهاش إنها تنطق في الموضوع دا أبداً.

نظر حسن بغضب لأمه الصامتة ثم لإخوته الصامتين وخرج من باب الشقة غاضبا وصفقه بشدة خلفه وآخر ما قاله قبلها كان  :

-            أنا هاثبت لكم ان حياتكم هي اللي كلها كدب .

نظر أحمد لأبيه وأمه الصامتين وهو لا يصدق ما سمعه ثم بشكل تلقائي ركض نحو الباب منادياً حسن وركض سعد ليلحق به وخارج الباب وجد حسن قد وقف فعلاً ينظر لأحمد بغضب وأحمد غير قادر على ترتيب كلماته لتخرج بشكل صحيح .

-           بابا .. أخويا .. ماما .. إزاي ..  أنس .. مين .. فين

توقف برهة و قد هدأ حسن  قليلاً وابتسم لتلعثم أحمد فقال بهدوء :




-                أمك و أبوك مخبيين كتير عليك، وانت اللي دفعتهم لدا من قبل ما توعى لو عرفت تخرج منهم بحاجة هتفهم كتير ولو ما عرفتش كلمني، هتلاقي رقمي مع ندي .

ثم تركهما و نزل الدرج و هما واقفان في مكانهما وبعد ثوان عادا للمنزل فوجدا الأب دخل غرفته كالمعتاد ولكن في لحظة دخولهما سمعا صوت إغلاق باب الغرفة بالمفتاح من الداخل وهذا ما لم يحدث من قبل وفهمت الأم أنها تعتبر مطرودة من غرفتها تلك الليلة وعليها أن تنام مع ندى في غرفتها، وهذا أضاع على أحمد أي فرصة للتحدث مع أخته بانفراد، ولا يرى أنه قادر على مناقشة أمه  في أي شيء حتى يعود عادل.


أشار أحمد لسعد فدخلا غرفة أحمد مجدداً وجلسا في صمت لثوان ثم بدأ سعد بالكلام.


-           حسن أخوك بس أبوك مش معترف بيه وشايف انه ابن أنس و انه قتله أو استني موته علشان ييجي يرمى بلاه عليكم .
-           مين أنس ؟
-           مش عارف .
-           حسن غريب من أول مرة شوفته .
-           تفتكر علشان كدا لقينا ليه صورة وهو صغير مع أهلنا ؟




-           صح ..  انت كدا بدأت تربط الخيوط .. عايز أسأله بقى معنى الكلام اللي كان في الورقة اللى سابها لي
-           هي فين الورقة دي دلوقتي ؟


قام أحمد و فتح دولاب ملابسه وبدأ يعبث في جيوب سراويله حتى وجد الوريقة ثم عاد للجلوس مع سعد وأعادا قراءتها فبدلاً من أن تساعدهما على فهم أي شيء زادت اسئلتهما "أمك كانت مع عمتك فاتخنقت .. عايز تعرف إيه اللى حصل وتنقذها، فتح مخك وهتلاقي في نفسك اللي ما تتخيلهوش بس لازم تعرف إنك هاتهد حياتك القديمة كلها .. حصلني"


-                قال أحمد بحزن: ما هي اتهدت فعلاً خلاص .. يا ريتني ما نزلت وراك يا حسن.