الثلاثاء، 6 سبتمبر 2022

في ذكري رحيله

 أبى






 رحل جارنا يا أبى، وسبقه جارنا الذى يسكن أسفل بيته، لحقوا بك فهل رأيتهما؟ رحلتم وتركتمونا يا أبى، وكم طعم الفراق مرير، ربما تأخذنا مشاغل الحياة من مشاعرنا فتتزاحم التفاصيل فى يومنا لننسى أنفسنا ذاتها، ولكن فى العمق يكمن كامل الالم مرافق الجرح الدامى الذى ينبض مع نبض قلوبنا وسيرافقنا حتى النهاية.



حين علمت بوفاة جارينا كانت تلك الاخبار شديدة الحزن، ولكن لم أشعر سوى بالصدمة والشفقة على ابنائهما، وكأن المشاعر تبددت بوفاتك يا أبى، ولكن حين ذهبت لمواساتهم نشب الألم أنيابه فى واندفعت دموعى حاملة حزنى وحزنهم معاً فهربت لأترك نفسى لدموعى بلا مشاهدين، أعلم أنه طبيعى أن أبكى فى تلك المواقف، ولكن لم أرغب أن أيقظ الألم المبكى بداخلهم، وهذا دأبى على كل حال الانزواء بالألم أو للألم.



أه يا أبى، يقتلنى غيابك وأنا لم أقدر وجودك حق قدرك، لكم تهربت من حواراتى معك لأختلافنا وما أدركت أننى سأندم كل هذا الندم الان، أصابنى التخبط بعدك وبقيت شهوراً تهرب منى الكلمات وأنا صديقتها القديمة، خفت ان يخفت شعورى فلا أستطيع الكتابة عنك لك بعد مرور الوقت، ولكن حين مسكت القلم تسابقت الافكار والذكريات والدموع والكلمات فزاد تخبطى وتيهى. عرفت يا أبى بعد رحيلك أن أقسى شعور بعد الاحتضار هو وداع الاحباء النهائى، باغتنى يا أبى رغم أنك أبلغتنى عدة مرات بحتمية رحيلك والعقل يدرك ان تلك حقيقة ولكن القلب لم يقبل تحذيرك كما لا يقبل غيابك الان، مازالت فى حالة إنكار نفسي على عكس كلامى مع الجميع، وأدعوا لك وأصبر والدتى وأبنتى وأبكى وحدى.



أقول اننى أحمد الله على وجودى معك فى أخر أيامك، وهذا حق عدا أن روحى ترفض فكرة رحيلك، أذكر نفسى بأيام النهاية وما بعدها من بكاء وصلاة ولحد فينهمر البكاء ويشتد الألم والندم ويستمر الانكار، أدعو لك بالرحمة وأطلب منك الصفح على إنزوائى فى حياتك، فيربت على زوجى مخبراً إياى انك كنت تدرى طبعى ولا تلومنى عليه وكانت دعواتك لى بالرفقة محبة لى لا عتاب على تقصير.



لا أعلم هل تسمع تلك الكلمات التى تنطقها روحي ليرسمها الحبر على الاوراق فى صمت أم أنى فقط أمل ذلك، على اى حال أحب أخبرك أن لا تقلق فقد أحسنت لى كثيراً حتى لو لم أستشعر ذلك سابقاً، كنت حمقاء يا أبى وأنضجنى فراقك فوق ما أحتمل، كانت مواقفك للنهاية نبراساَ لى لأتعلم، كعجين الفخار عليه أن يحترق بلهيب النيران حتى يشتد ويصير أقوى. لست أقسى لا تقلق، أذكر كلماتك ومواقفك لأتعلم من تجربتك بالحياة، وكم كانت مميزة وتشابه روحى كثيراً، كنت الاقرب شبها لك روحاً ولكن لسذاجتى جعلت الاختلافات والهيبة تطفو لتفقدنى من حياتك الكثير من التواصل والمتعة. أشكرك يا أبى أنك كنت أبى، ووداعاً الى حين، لعل ربي يغفر لنا جميعاً ويرأف بوهن أرواحنا ويصفح عنا ذلاتنا وتقصيرنا ليجمعنا برحمته فى جناته العاليه. عاليه حفيدتك لم تستمع برفقتك وان كانت تشبهك بعض الشىء. أدع لى يا أبى عندك أن احسن اليها هى واختها كما أحسنت أنت لى ولآخوتي، فأستحق منهم محبة تقارب محبتك بداخلى.



الاثنين، 15 أغسطس 2022

نورسانتي - الجزء الأول

(1)



رفع رأسه ببطء وهو يتأوه، بصق شيئاً شعر به بفمه ممزوجاً بسائلٍ ظنَه لعابَه حتى رآه على الأرض بجانب جسده المسجيِّ على الرمال البيضاء، كان أحد الضروس مكسوراً ومختلطاً بالرمال والدماء. تحسس بلسانه أسنانَه ليعرف مكانه لعجزه عن تبين مكانه استدلالاً بالألم، فكل وجهه وجسده يؤلمانه بشدة.


اعتدل جالساً ونظر حوله، ففزع حين رأى أنه في مكان مقفر لا يوجد به سواه، فلاة ممتدة علي مرمى بصره، حاول الوقوف ولكن ساقه اليسري لم تُعِنه، بل على العكس زاد توجعُه منها على بقية الجسد بشكلٍ لفت نظره لتخضب بنطاله بالدماء، فرضخ وعاد للجلوس جاهلاً ما يمكن أن يقوم به أو يساعده في الورطة التي وجد نفسه فيها.


حاول أن يهدأ ويتمالك أنفاسه كما نصحته أخته عفاف مراراً، كان لتذكرها طيب الأثر عليه، ولكن ما مرت ثوانٍ حتى زال الأثر لتذكر ما يرتبط بها ويؤلم، تذكَّرَ أنها رحلت وتركته رغم علمها بأنه يتيمٌ دونَها بعد وفاةِ والديهما منذ عقدٍ مضى، تذكر أنها لم تعد موجودةً في حياته سوى مجرد ذكرى شديدةِ العذوبةِ والشجن، تذكر أنها غابت عنه وتُوفيت نتيجةً لوباءٍ اكتسح العالم فغفل عنه وهو غير محتاطٍ صحياً في تعاملاته اليومية، وأصابها هي التي لم تغادر بيتَها منذ اقترنت بـ(سامح). (سامح) .. هذا اللعين.


كان تذكُّر هذا الشخص أمراً بغيضاً لم يتمنَّه في هذا الوقت وهذا المكان، ولكنه كان خير وسيلة ليتذكر كيف أتى إلى هنا وأين هو.

للمتابعة