الثلاثاء، 4 سبتمبر 2018

العمق السطحي







المعتادُ أن القراءةَ ظاهرةٌ صحية، توسع من مدارك صاحبها، وتزيده علماً وخبرةً تُنضِجان عقله، ومدَّعي الثقافةِ دائماً ما ينكشف سريعاً بمجرد تكلُّمه، ولكن مؤخراً ظهرت فئةٌ جديدةٌ غيرُ مُعتادةٍ من المثقفين، وذلك بعد تحول صناعة الكتب إلي تجارة. يقيم بعض الأشخاص دوراً للنشر تستلم من كل كاتب أوراقَه ومبلغاً ماليّاً لتصنع من كلماته كتاباً دون الاهتمام لقيمة تلك الكلمات من عدمها، والكاتب كذلك أدرك أن رواجه لدى القراء والناشرين معتمدٌ على ملائمة كلامه لذوق المتلقي -الذي للأسف تدنَّى كثيراً في الفترة الأخيرة- فيبتذل أو يكتب ما لن يزيد قارءه شيئاً، مجرد كلمات تشغل أمسياته فتداعب أحلامه حيناً، وتلعب علي أشجانه حيناً أخري، وتسليه في باقي الأحيان، دون أن تثقفه أو تصقل شخصيته وعقله، أو تهذب من أخلاقه، بل وكثيراً من الأحيان تعطيه معرفةً والفاظاً مبتذلةً هو في غنى عنها، حتي اللغة ذاتها تضمحل بعدما هاجمتها العامية بضراوة في عقر دارها علي الأوراق، لم تعد العامية جزءاً صغيراً يدسُّ نفسه بخجلً تحت مُسمى التقريب للصورة الذهنية للقاريء، بل أصبحت هناك كتبٌ روائية وغيرها- كلها بالعامية- تحكي عن أبطال خياليين أو مواقف للكُتّاب أنفسهم تشمل سباباً أحياناً يؤذي القاريء بدلاً من تهذيبه والسمو به.



الكارثة الحقيقية ليست في وجود كتب غثة، فلطالما كانت موجودةً وتتداول قليلاً ثم تتحول أوراقها لقراطيس للطعام او المسليات، وقارئُها مع الوقت يدرك أنها لا تزيده إلا جهلا، ولكن في رواجها واكتساحها لسوق الكتب على حساب أقلامٍ واعيةٍ ثمينة، بل واستقطابها لجمهور صغار الشباب من المراهقين والبسطاء ممّن يقْرُبونهم سناً، هؤلاء هم رجال ونساء الغد الذين يجهلون من هم مصطفى مشرفة ومحمود تيمور وغيرهم من العلماء والأدباء الذين أثروا الكتب بعلوم وخبرات حياتية ومؤلفات غيرت من مسار حياة الكثيرين وأثرت في الإنسانية ذاتها.



والمضحكُ المبكي حالياً هو تحوُّل القراءةِ لموضة، فيلتقط القاريء صورا مع كتبٍ لن يقرأها وإن قرأها فلن يكملها، ويتخير من الكتب أخفَّها وأقربَها للغته أو تفكيره ليقرأها، فقط ليتسلي ثم يتظاهر بالثقافة حين يناقش أصدقاءه عنها. قد يختلف معي المفكرون في رأيي، ولكنني أشعر بالغيرة نحو الأدب واللغة، فهجرة القراء للكتب القيِّمةِ أفضل لي من فيضان الكتب الرخيصة أو الهشة التي لن تثمر إلا قراء مثقفين بمستويً سطحيّ.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق